"رسم صخري في طاسيلي ناجر بالصحراء الجزائرية"

“تاريخ الصحراء الجزائرية: من الرسومات الصخرية في طاسيلي إلى الفتح الإسلامي عام 642م”

تُعدّ الصحراء الجزائرية مجالًا جغرافيًا وحضاريًا فريدًا عرف تحولات بيئية وتاريخية كبرى، بدءًا من عصور ما قبل التاريخ، حيث شكلت بيئةً غنية ومتنوعة، وصولًا إلى مرحلة الفتح الإسلامي التي غيّرت بنيتها الدينية والثقافية. هذا المقال يعرض مراحل تطور تاريخ الصحراء الجزائرية ضمن منظور علمي وأثري، مسلطًا الضوء على التغيرات المناخية، والاستيطان البشري، وأثر التحولات السياسية والدينية.

1. الصحراء الجزائرية في عصور ما قبل التاريخ: الفن الصخري والمناخ القديم

1.1 نقوش الطاسيلي ناجر: دليل على بيئة غنية ومناخ رطب

تُعد منطقة الطاسيلي ناجر وجبال الهقار من أغنى مواقع الرسوم الصخرية في إفريقيا، حيث تمثل سجلاً بصريًا لحياة الإنسان والحيوان في بيئة مغايرة تمامًا لما هي عليه اليوم. تُظهر هذه النقوش كائنات استوائية مثل التمساح والزرافة، ما يدل على مناخ رطب وغابات كثيفة تغطي الهضاب والمرتفعات.

طاسيلي ناجر: أقدم متحف مفتوح لفن ما قبل التاريخ

في عام 1982، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) منطقة طاسيلي ناجر ضمن قائمة التراث العالمي، تقديرًا لأهميتها الثقافية والتاريخية والبيئية الاستثنائية. وتُعتبر هذه المنطقة – الواقعة في جنوب شرق الجزائر – من أكبر التكوينات الجيولوجية الصخرية في العالم، إذ تمتد على مساحة تُقدّر بـ 89,342 كيلومترًا مربعًا، وتُوصف بـ”الغابة الصخرية” نظرًا لتشكيلاتها الحجرية الفريدة.

اقرأ المزيد……….

التكوين الجيولوجي والحقب الزمنية

تشير الدراسات الجيولوجية إلى أن هضاب طاسيلي تعود في أصلها إلى حقبة الباليوزويك، أي الزمن الجيولوجي الأول الذي يمتد بين نحو 550 مليون و370 مليون سنة مضت، ما يجعلها من أقدم المناطق الجيولوجية في شمال إفريقيا.

النقوش الصخرية بمنطقة طاسيلي ناجر - الجزائر

الرسوم الصخرية: توثيق مناخي وإنساني

تحتضن المنطقة أكثر من 15,000 رسم ونقش صخري نُفذّت على جدران الكهوف والملاجئ الصخرية، وهي تمثل سجلًّا بصريًا نادرًا يوثّق التغيرات المناخية التي شهدتها المنطقة، بما في ذلك مراحل الجفاف والرطوبة وهجرات الحيوانات الناتجة عنها. كما توضح هذه الرسومات مراحل التطور الاجتماعي والثقافي والروحي للإنسان الذي عاش في طاسيلي منذ ما لا يقل عن 6,000 سنة قبل الميلاد.

ويُعدّ هذا النوع من الفن الصخري شاهدًا ماديًا على تطور الإدراك الجمالي والعقلي للإنسان في عصور ما قبل التاريخ، مما جعل طاسيلي تُوصَف بأنها أكبر معرض فني مفتوح لفن ما قبل التاريخ على مستوى العالم.

الاستمرارية والخصوصية الرمزية

ما يُميز فن طاسيلي عن غيره من الفنون الصخرية حول العالم هو الاستمرارية الزمنية والتجدد الأسلوبي عبر العصور؛ إذ أظهرت الدراسات الأثرية أن النقوش والرسوم تمتد على مدى آلاف السنين، وصولًا إلى القرون الأولى للميلاد. وقد أولى الإنسان القديم اهتمامًا كبيرًا بالجانب الديني والسحري في إنتاجه الفني، لا سيما في الفترة المعروفة بـ”عصر الرؤوس المستديرة”.

“عصر الرؤوس المستديرة”: بين الأسطورة والرمزية

تُعرف إحدى الفترات الرمزية في رسوم طاسيلي باسم “فترة الرؤوس المستديرة”، نسبةً إلى الرسوم التي تُجسّد كائنات بشرية برؤوس دائرية غير تقليدية. وقد أثارت هذه الرسوم العديد من الافتراضات الخرافية من قبل بعض الهواة، الذين اعتبروا أن هذه الرسومات توثّق لوجود كائنات فضائية أو مخلوقات خارقة. إلا أن هذا التفسير يُعزى غالبًا إلى نقص الدراسات الأكاديمية المعمّقة مقارنة بوفرة الكتابات غير المتخصصة حول الموقع.

المستكشف الفرنسي (هنري لوت) رفقة مرشده الطارقي (جبرين)

جهود التوثيق والاستكشاف

شهد عام 1969 نقطة تحول في دراسة موقع طاسيلي، حيث نظّم المستكشف الفرنسي هنري لوت سلسلة من البعثات الاستكشافية بالتعاون مع السكان المحليين، وبالأخص من قبائل الطوارق. وتمكّن لوت بمساعدة مرشده الطارقي “جبرين” (واسمه الكامل: ماشار جبرين حاج محمد) من توثيق أكثر من ألف رسم ونقش يمثلون نماذج متعددة من الفن البدائي، ما أتاح للعالم اكتشاف ثراء هذه الحضارة القديمة.

بينما اتجه بعض الهواة إلى تفسيرات شعبية مبسطة للرسومات التي تُجسِّد أشكالًا بشرية برؤوس مستديرة على جدران كهوف طاسيلي، معتبرين إياها تصويرًا لكائنات خارقة مثل الجن أو الكائنات الفضائية، قدّم الباحثون قراءة أكثر عمقًا لهذه الرموز. فقد رأى المتخصصون في علم الآثار والأنثروبولوجيا أن تلك الرسومات تحمل دلالات روحية ودينية واضحة، تُشير إلى ممارسة طقوس شعائرية أو اعتقادات غيبية.

وتُعد هذه الرموز، وفقًا للتفسير العلمي، شاهدًا على أن الإنسان الذي عاش في مدينة سيفار ومناطق طاسيلي ناجر خلال عصور ما قبل التاريخ، كان يمتلك تصورات إيمانية وروحية تُعبّر عن وعيه بالعالم الماورائي، وأنماط تفكيره فيما يتجاوز الماديات، مما يعكس بدايات نشوء العقيدة الدينية في حياة المجتمعات الأولى بالمنطقة.

2 التنوع البيولوجي القديم في الصحراء

تشير الاكتشافات الأثرية إلى وجود حفريات ديناصورات وبقايا أسماك وحيوانات استوائية في مواقع مثل “أمكني” و”تيهودين”، ما يعزز فرضية وجود أنهار وبحيرات قديمة كانت تُغذى من وديان مثل:

وادي تفاساسيت: ينحدر من الطاسيلي والهقار نحو نهر النيجر.

وادي إغارغار: يتجه من الهقار إلى شط ملغيغ (شرق الجزائر).

تحولات مناخية: من الرطوبة إلى الجفاف

تشير الدراسات الجيولوجية إلى أن الصحراء مرّت بفترتين مناخيتين رئيسيتين:

المرحلة الرطبة (الألف السابع إلى الثالث قبل الميلاد): شهدت كثافة غابية ووفرة مائية.

مرحلة التصحر (منذ الألف الثالث قبل الميلاد): أدت إلى تراجع النشاط البشري وتجمع السكان في الواحات.

النشاط البشري في العصرين الحجري القديم والحديث

تميّز العصر الحجري القديم الأسفل والحديث بنشاط بشري بارز، تمثل في الصيد والرعي والتنقل. في المقابل، تكاد تغيب بقايا العصرين الحجري الأوسط والأعلى، ربما بسبب الظروف المناخية غير المواتية.

3. الفتح الإسلامي للصحراء الجزائرية: الأثر الديني والتحولات السكانية

بدأ الفتح الإسلامي للصحراء الجزائرية ضمن الحملات الأموية، وامتد ما بين 670م و711م، بقيادة قادة مثل عقبة بن نافع، الذي أسس مدينة القيروان كمركز لانطلاق الفتوحات.

المقاومة الأمازيغية وتدرّج الانتشار

واجه المسلمون مقاومة قوية من الأمازيغ، خاصة في المناطق الجبلية والصحراوية، ما جعل الإسلام ينتشر تدريجيًا. ولم يتحول السكان نهائيًا إلى الإسلام إلا مع ظهور المرابطين في القرن 11م، حيث تم أسلمة ما تبقى من القبائل الوثنية والمسيحية.

أحداث مفصلية في الفتح الإسلامي للصحراء

من أبرز المحطات التاريخية:

بناء القيروان كقاعدة عسكرية وإدارية.

المعارك مع الأمازيغ التي أبطأت عملية الأسلمة.

تغلغل الإسلام واللغة العربية في القبائل الصحراوية.

أثر الفتح الإسلامي على الصحراء

شكّل الفتح الإسلامي نقطة تحول جذرية، إذ دخلت الصحراء في شبكة العلاقات الإسلامية، وبدأت تتبنى الثقافة الإسلامية، ما مهّد لظهور طرق تجارية عابرة للصحراء وربط الشمال بالجنوب.

4. التحولات السكانية والجغرافية الكبرى

الصحراء كمنطقة طاردة للسكان

مع تفاقم التصحر، تحولت الصحراء إلى منطقة طاردة للسكان، بينما أصبحت السهول الشمالية وشواطئ البحر الأبيض المتوسط مناطق جذب جديدة، ليس فقط لسكان الصحراء، بل أيضًا لأقوام من شمال إفريقيا والمتوسط.

اقرأ المزيد …….

استنتاج

يُظهر التاريخ العميق للصحراء الجزائرية ديناميكية بيئية وثقافية غنية، من بيئة خصبة في عصور ما قبل التاريخ إلى ساحة مواجهة خلال الفتح الإسلامي، ومن موطن رسومات صخرية تشهد على تنوع بيولوجي نادر، إلى مركز ثقافي وديني ضمن الحضارة الإسلامية. إن فهم تاريخ الصحراء لا يكتمل دون ربط الجغرافيا بالمناخ، والسياسة بالثقافة، والآثار بالسكان.

شاهد أيضاً

الصحراء الجزائرية بعيون الرحالة الاجانب

الصحراء الجزائرية في مذكرات الرحالة الأجانب: شهادات موثقة

لم تكن الصحراء الجزائرية مجرد مساحة فارغة في عيون الرحالة الأوروبيين، بل كانت عالمًا فاضحًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *